بسم الله الرحمن الرحيم..
قطاف لغوي..موضوع له من الفائدة الكثير, تناول أبيات بالشرح والتحليل يضيء لنا فكر , ويرصد لنا معنى , قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس , نونية أكثر من رائعة , مع أن الحزن يتخللها , بوصف الممالك الإسلامية تسقط , وتساؤلات عن مدن تاهت في خضم الحروب.
الأندلس , حزن تساقط على أمم الإسلام..وذكرى ما زالت تدور في حنايا النفس , فصورها حية إلى يومنا هذا , بل وتدل على قوم أسلموا وعاشوا ها هنا.
لكل شيء إذا ما تم نقصان * فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ * من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تبقي على أحد * ولا يدوم على حال لها شانُ
يمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ* إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو * كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ * وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ * وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهب * وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ
أتى على الكل أمر لا مرد له* حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلك ومن مَلك * كما حكى عن خيال الطيفِ وسنانُ
دار الزمان على دارا وقاتله * وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
كأنما الصعب لم يسهل له سببُ * يومًا ولا مَلك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة * وللزمان مسرات وأحزانُ
وللحوادث سلوان يسهلها * وما لما حل بالإسلام سلوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له * هوى له أحدٌ وانهد نهلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ * حتى خلت منه أقطارٌ وبلدانُ
فاسأل بلنسيةَ ما شأنُ مرسيةٍ * وأين شاطبةٌ أمْ أين جيَّانُ
وأين قرطبةٌ دارُ العلوم فكم * من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
وأين حمصُ وما تحويه من نزهٍ * ونهرها العذب فياض وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما * عسى البقاء إذا لم تبقى أركان
تبكي الحنيفيةَ البيضاءَ من أسفٍ * كما بكى لفراق الإلف هيمانُ
حيث المساجدُ قد أضحتْ كنائسَ ما * فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ * حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ * إن كنت في سِنَةٍ فالدهر يقظانُ
وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ * أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ
تلك المصيبةُ أنْسَتْ ما تقدَّمها * وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ
يا راكبين عتاقَ الخيلِ ضامرةً * كأنها في مجال السبقِ عقبانُ
وحاملين سيوفَ الهندِ مرهقةُ * كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعةٍ * لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ * فقد سرى بحديثِ القومِ ركبانُ
أبو البقاء صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الرندي الأندلسي (601 هـ -684 هـ الموافق: 1204 - 1285 م) هو من أبناء (رندة) قرب الجزيرة الخضراء بالأندلس وإليها نسبته.
عاشَ في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وعاصر الفتن والاضطرابات التي حدثت من الداخل والخارج في بلاد الأندلس وشهد سقوط معظم القواعد الأندلسية في يد الأسبان، وحياتُه التفصيلية تكاد تكون مجهولة، ولولا شهرة هذه القصيدة وتناقلها بين الناس ما ذكرته كتب الأدب، وإن كان له غيرها مما لم يشتهر، توفي في النصف الثاني من القرن السابع ولا نعلم سنة وفاته على التحديد.
وهو من حفظة الحديث والفقهاء. وقد كان بارعا في نظم الكلام ونثره. وكذلك أجاد في المدح والغزل والوصف والزهد. إلا أن شهرته تعود إلى قصيدة نظمها بعد سقوط عدد من المدن الأندلسية. وفي قصيدته التي نظمها ليستنصر أهل العدوة الإفريقية من المرينيين عندما أخذ ابن الأحمر محمد بن يوسف أول سلاطين غرناطة في التنازل للأسبان عن عدد من القلاع والمدن إرضاء لهم وأملا في أن يبقى ذلك على حكمه غير المستقر في غرناطة وتعرف قصيدته بمرثية الأندلس. وقال عنه عبد الملك المراكشي في " الذيل والتكملة " : كان خاتمة الأدباء في الأندلس بارع التصرف في منظوم الكلام ونثره فقيهاً حافظاً فرضياً له مقامات بديعة في أغراض شتى وكلامه نظماً ونثراً مدون.
نظم أبو البقاء هذه القصيدة بعد ضياع عدد من المدن الأندلسية ،بعد عدة حروب طاحنة..أدى ذلك إلى انهيار جزء كبير من جسد الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس.. وسقوطها بيد الأسبان فقال هذه القصيدة يستنصر أهل أفريقيا من بني مرين ، بعد أن أخذ بعض ملوك بني الأحمر بالتنازل عن عدد من القلاع والمدن للأسبان استرضاء لهم ، وأملا في أن يبقى له حكمه على غرناطة ، وكان ذلك نذيرا بسقوط الأندلس ، وزوال ملك المسلمين فيها ، بسبب تناحرهم واستعانتهم بعدوهم .وانشغال العديد من سكانها بأمور دنيوية.
تم :مأخوذ من الكمال,واكتمال الشي تمامه.
يغر: المصدر : غُرُورٌ..وهو الإعجاب بالشي والانبهار به.
.
الـدهر : الزمـان.
المسرّة : الفَرْحَة والسرور.
ساءته: أحزنته.
الحـوادث: ما يتعرض له الإنسان من مصائب.
يدوم: دوام الشي,استمراره.
الدار: الدنيا.
شان:حال.
الدهر:الزمان..
سابغة:درع..وجمعها سوابغ:دروع.
مشرفيات: سيوف.
أكاليل:جمع إكليل وهو مايضعه الملوك على رؤوسهم.
الوسن: النعاس .
سلوان: من سلا ،وصاحب المصيبة بحاجة إلى من يسليه في مصيبته ويخفف عنه وطأتها ،والمعنى أن كل المصائب قد نجد ما يسلينا عنها إلا مصيبتنا في ديننا فلا شيء يسلينا عنها.
أقفرت:المقفرة الخالية ،ويعني خالية من المسلمين وعامرة بأهل الكفر.
الألف من الألفة والصحبة .
يقودها :يوجهها كيفما أراد ، والعلج قيل هو الرجل من كفار العجم وقيل الحمار.
المكروه : ما يكره فعله.
إرم: والتي تعني مدينة الألف عمود. ورد ذكرها في سورة الفجر في القرآن، وقد اعتبرها بعض الباحثين والمؤرخين أنها مدينة في حين اعتبرها البعض الآخر مثل الطبري أنها قبيلة من بني عاد، كما قيل انها قبيلة ضربها الله بغضبه لكثرة خطاياها، وحسب خبراء الآثار يعتقد أن عمر أنقاض المدينة يعود لنحو 3000 سنة ق.م.
عاد وشداد و قحطان:أمم سابقة,عاشت منذ الأزل.ومنهم من أرسل إليهم الله من رسله عليهم السلام.
قضوا:أتاهم أمر الله والمعنى يتضمن الموت والعذاب.
إيوان:وهي قاعة وعادة ما تطلق على أحد أنواع القاعات وهي: قاعة مسقوفة بثلاثة جدران فقط والجهة الرابعة مفتوحة تماما للهواء الطلق.
الحنيفية:أحد المذاهب الإسلامية وهو ملة إبراهيم عليه السلام..
بلنسية , شاطبة , مرسية , جيان: أسماء المدن الأندلسية وهي أسماء أعجمية لا معنى لها.
والهيمان من الهيام والشوق.وقد تكون مأخوذة من كلمة هائم وهو التائه.
أضحت:أصبحت.
صلبان:وهو الصليب.
دعة:هدوء وإطمئنان.
كما هو معروف عن الشعر الأندلسي , فألفاظه سهلة ومعبرة , واضحة المعاني لا تحتاج إلى الكثير من التدبر. كما أنها تتميز بالقوة والرصانة والفصاحة كما جاءت العبارات مناسبة للموضوع في التزامه بحدة الوزن والقافية .
الفصاحة:
فصاحة اللسان خلوه مما يعيب من عجمية والدخيل على اللغة.
البلاغة:
هي حسن البيان وقوة التأثير(وعند علماء البلاغة)مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته.
نُظمت هذه القصيدة في الأندلس في أواخر الحكم الإسلامي في الأندلس, عندما تهاوت المدن والحصون الإسلامية.
تتحدث القصيدة عما حل بالأندلس من مصائب وكوارث وسقوط لمدنها و حصونها ,يستنهض بهذه الأبيات همة المسلمين’يطلق نداءات استغاثة,متناولا صورآ جمالية تصف حال
أمم سبق وأن أتاها أمر الله.
يحذر الشاعر في مطلع قصيدته من مغبة الاغترار بالدنيا..فدوام الحال من المحال..
كما أوضح الشاعر تقلب الدهر من مسرات إلى أحزان..
ووجود السلوان في حياتنا يسهل علينا تدريجيآ من وقع تلك الحوادث,ثم بدأ بتوضيح الخطب الجلل الذي أصاب جسد الأمة الإسلامية في بلاد الأندلس من سقوط للممالك الإسلامية واحدة تلو الأخرى مما يسبب للشاعر الحزن العميق ويستنهض بعد ذلك همم المسلمين للوقوف جنبآ إلى جنب في وجه العدو المغتصب..
تساؤل يورده الشاعر لبلنسية أين مرسية وشاطبة وجيان..مما يوضح أكثر أن المدن الإسلامية بالأندلس تواجه خطرآ أجمع على شتى بقاعها..
وأين قرطبة؟
وصفها بعلو العلماء في سمائها ووصولهم إلى دائرة المجد في العلم والثقافة.
أسلوب شرطي.لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نُقصان.أيضآ ورد الأسلوب الشرطي في شطر البيت:
مَنْ سَرَّهُ زمنٌ ساءته أزمان .
_أسلوب النهي:فلا يغر بطيب العيش إنسان.
_أسلوب النفي:لا تبقي على أحد.
_أسلوب التساؤل:تكرر في ثلاثة أبيات
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ * وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ * وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهب * وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ
دلالة المعاني:
هي الأمور كما شاهدتُها دُوَلٌ : دليل على أن أحوال الناس في الحياة متقلِّبة
متغيِّرة.
الصور الخيالية :
الصور الخيالية قليلة في هذه الأبيات ولكن الشاعر حقيقة امتاز ونجح في تشخيص الأمور المعنوية وتجسيدها وبث الحياة والحركة في الجمادات ، التي جعلت كل من يقرأ هذه القصيدة يتصور حالهم وكأنه معهم .
Keine Kommentare